قد تبدوا القيود المضفاة نتيجة التزام الأعمال المرئية بالتعليمات الشرعية أثقل مما هي عليه حقيقةً. لعل هذه التأملات تهون من هذا الأمر:
إن الأعمال المرئية المعتادة أو المنتشرة في الساحة يتبع الكثير منها شيئاً من الضوابط. فكثيراَ -على سبيل المثال- لا تصور مشاهد التغوط أو تظهر العورات المغلظة بها، وإن كان حقيقةً من المعلوم أن هذه الأمور تكشف في بعض الأوقات (على الأقل عندما يكون الشخص بمفرده). لكن عندما يتعلق الأمر بالتمثيل لا تظهر كثيراً، إما لأنها مستنكرة مظهراً أو مقززة ولا تناسب الزوق العام. كما لا يخفى أن الكثير من المجتمعات -حتى من غير المسلمة- من تضع ضوابط معينة (بعضها يكون عرفياً) على ما يظهر. ومنها أنه بالعموم لا يزال هنالك فرق بين الأفلام الخليعة أو القذرة والأعمال المخصصة للجمهور العام في حدود ما يتوقع إظهاره. كما يتم كذلك وضع الضوابط على ما يتعارف عليه أنه لا يناسب فئة عمرية معينة، فيظهر في كثير من الأماكن للكبار ما لا يظهر للصغار، وتكون هنالك أعمال ملائمة لجميع العائلة بأعمارهم المختلفة. ما نقصده هنا أن فكرة وضع بعض الضوابط أو الحدود على الأعمال وتجنب تصوير بعض المشاهد هو أمر معمول به ربما في أغلب بقاع العالم اليوم ومن غير الضوابط الشرعية.
إن أمر الانتصار للواقعية دائماً في كل الأحوال هو أمر مستحيل. فطلما وجد التمثيل والتصوير، فإن الواقعفية بطبيعة الحال تنتقص بعض الشيء. كما توجد أصناف رائجة من الأعمال المرئية المقبولة التي تتعمد عدم الالتزام بالواقعية أصلاً في بعض جوانبها، كتعمدها استخدام للخوارق والخياليات أو الفانتازيا. لذا يمكن القول أن فكرة الواقعية وإن اتفقنا بلا شك إنها مطلوبة عموماً وفي أغلب الأعمال والأحوال، لكننا أيضاً نسلم أنه لا حرج من نتنازل بأجزاء منها، كما يحصل حتى لبعض الأعمال الرائجة اليوم في الساحة. وربما بالأصح أن ننظر إليها على أنها عامل نسبي يكون بمقدار معين يمكن للمشاهد تقبل العمل معه.
إن كون القصص عموماً هي بالضرورة انتقائية في أحداثها، فمن غير المعقول عادة أن يذكر أو يوثق كل شيء يحصل أو حصل، وإنما لزاماً يكون هنالك انتقاء ؛ فيختار ما سيتم تصويره ومن ثم تضمينه في العرض النهائي. وعلى ذلك، مثلاً لو تعمد عدم تصوير مشاهد لكل الممثلين وهم يستحمون في منازلهم، لا نقول بالضرورة أن العمل غير واقعي، بل لو فعلنا ذلك نكون غالباً نعمل عمل غير منطقي ومستنكراً ربما من الممثلين أنفسهم بالإضافة للمشاهدين، هذا رغم تسليمنا أنه في الحياة الحقيقة والواقع، كل من يتم تمثيلهم هم أشخاص غالباً يستحمون كذلك. وربما يقاس على ذلك من يشدد في مسألة أهمية أن يتم تصوير المرأة حاسرة الشعر في بيتها للواقعية، وأنها تجنب الأمر يسبب إشكالية كبرى يتعطل بسببها العمل، بأن المسألة ليست كذلك بالضرورة.
إن التمثيل في نهاية المطاف تمثيل وليس حقيقةً، والمشاهد الطبيعي يعلم أن الممثل ليس بالضرورة هو نفسه من يمثله في العادة، وإن كان هو، فهو فيما نشاهده يمثل كذلك. إن هنالك ثم حيز في التمثيل فيما يتعلق بالمصداقية من الضروري والطبيعي التغاضي عنه والتسامح فيه. وقد يزداد الأمر تعقيداً كذلك عندنا يشتهر ممثل معين ثم يتم الاستفادة منه ذاته في أكثر من عمل آخر مختلف لاحقاً قد لا يرتبطون ببعضهم البعض، فنحن هنا كمشاهدين ربما نحاول نفصل ذهنياً بعض الأحيان أن الممثل هو ذاته نفس الشخص الذي رأيناه في الدور الآخر، لكي يكون العمل المرئي الجديد علينا أكثر متعةً.
ولعل هذه الجزئية تتجلى بشكل أوضح في الأعمال المسرحية، فمن المتقبل فيها أن يمثل شخص على أنه مسن ولكنه ليس كذلك حقيقةً، أو حتى أن يمثل جنس على أنه جنس آخر، أو حتى إنسان على أنه غير إنسان (حيوان مثلاً). أو أن تكون المسرحية أو الفيلم من النوع التمثيلي الغنائي والذي تحكى به القصة في خليط من التمثيل والغناء. كل الأمور السابقة تستساغ لكثير من الناس ولا يرى بها بأساً، رغم أنها تفتقر لبعض من المصداقية في محاكاتها للحقيقة الواقعة. هذا قد يعني أنه ربما يأتي وقت مستقبلاً يصبح فيه مستساغاً أو غير مستنكر بشكل كبير أن تصور المرأة محجبة في بيتها، ويتغافل الجمهور عن هذه الجزئية كذلك، ولا يرفض كل العمل بسببها.
كما قيل الحاجة أم الاختراع. إن المجتمعات المسلمة والمجال الفقهي قد وجد أو أبدع منافذ جديدة بعض الأحيان في شيء من الأمور التي وجدوا فيها تضيق شرعي أو فهموا أن الشرع ضيقها. من أمثلة ذلك: رسم ذوات الأرواح وعمل التماثيل المجسمة، فبالرغم أنه كان فناً سائد في الحضارات المجاورة للمسلمين، إلا أنه في كثير من الأحيان والمناطق المسلمة، تم تفادي هذه التطبيقات لفهم البعض منهم أنها تدخل في المحظورات. وقد يحاجج البعض أن هذه الضوابط التي وضعوها على أنفسهم كانت سبباً في براعة فنهم في جوانب فنية أخرى مثل الزخرفة والنقوش والأشكال الهندسية بشكل ربما امتاز على حضارات كثيرة أخرى. لعل الطاقة التي لم تصرف في التماثيل وصور ذوات الأرواح انصبت في جوانب أخرى كان من شأنها أن ولدت أبدعاً وفناً مميزاً بهويتهم الخاصة. نذكر هنا أنه بعدم تقليدنا التام لكيفية ظهور المواد المرئية في المجتمعات الأخرى (مثل التي اخترعتها) في كل شيء، واعطاء تطبيقنا له خصوصية لعرضنا له على شريعتنا الإسلامية، لأمر ربما يكون من شأنه أن نؤسس مدرسةً جديدة بهذا المجال لها قواعدها المميزة، وايجابيات ربما يلمسها حتى من غير المسلمين.
وفي هذا الباب، يمكننا أن نقول أن الالتزام بالضوابط الشرعية، لا يحتاج بالضرورة أن يكون إما تجنب المشهد أو تصويره بطريقة صريحة تقلل من واقعيته. وإنما يمكن أن توجد لدينا حلول في صور حيل تمكننا من تحقيق غايتنا كذلك. فمثلاً يمكن تصوير مشهد الممثلة في بيتها وهي تتحدث فيه، لكنها خارج إطار اللقطة (أي أنها موجودة في المكان لكننا لا نراها في "الفريم"). أو أن يتعمد تصويرها وكأنها داخلة أو خارج من بيتها فتكون ’واقعياً‘ ما تزال بالحجاب. أو أن يكون هنالك دولاب مفتوح تأخذ هي منه شيء وتتحدث في نفس الوقت بحيث لا ترى لنا كاملاً أو فقط لا نرى رأسها، و على هذا النحو نبدع. كما أن تعمد التقليل من هذه المشاهد المحرجة باحترافية لا تلفت الانتباه في الأساس قد يكون الأفضل، وكذا فإن مشهد واحد من هذا النوع المتطلب للحيلة أسهل في التعامل معه، مقارنة مع عمل مرئي تكون كامل أحداثه دائرة حول امرأة في بيتها.
في الجزء التالي نطرح بعض الحلول عبارة عن حيل مبتكرة من أجل تهوين القيود الناتجة عن التوفيق بين الإسلام والأعمال المرئية.