كأنه انحرفت كثير من الأعمال عن المسار الحقيقي، وبطبيعة الحال كلمة (دراما) هي كلمة يونانية يقصدون بها المحاكاة، وهذا يلهمنا أن أصل هذه الفكرة فعلاً لم تنشأ في بيئة عربية ، ولذلك في البداية كان هناك جفوة، حتى كان من أهل العلم من يقول بتحريم العمل التمثيلي نفسه بغض النظر عن محتواه، بينما أكثر الفقهاء لا يقولون بهذا التحريم وإنما يرون أن العمل ذاته هو وسيلة، وإنما الحكم عليه هو بحسب المضمون والمحتوى والرسالة والهدف.
طبعاً جزء من هذه الأعمال قد يكون هدفه الترفيه والتسلية، وهذا هدف بحد ذاته ليس سيئاً إذا لم يتعد حدوده أو يتجاوز، أو يكون نوعاً من الاستخفاف والاستهزاء بالمقدسات والقيم والقطعيات والثوابت الشرعية.
[...]
فالمقصود أن الترفيه والتسلية ليست مذمومة بذاتها، لكن لا يجب أيضاً أن تكون هي الهدف الأسمى والهدف الوحيد.
الحقيقة أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله له كلمة يقول: [إن دراسة السير تغني عن كثير من الفقه]، هذا الكلام يرشد إلى قضية أهمية المشاهدة، وأيضاً الحكيم الصيني الذي يقول: (أسمعني وسوف أنسى، أرني ولعلي أتذكر، أشركني وسوف أحتفظ بالمعلومة) ، فهنا أنت ستشرك الناس في عمل متكامل بدلاً من أن تحكيه لهم أو ترويه، سوف يشاهدونه ويسمعونه ويتمثلونه بشكل جيد.
هنا لما تتحدث عن أشياء تاريخية، تخيل كم من أثر للدراما -مثلاً- في تشويه صور التاريخ، أو إعطاء صورة غير حقيقية، حتى التاريخ الإسلامي -مثلاً- عالمياً كيف يتم تناوله وتداوله بطريقة غير منصفة ولا محايدة، وحتى في عالمنا العربي كثيراً من الأعمال التاريخية مع أن الغالب أنها قد تكون أفضل من غيرها؛ لأن فيها قدراً من المحافظة، وغالب الذين يتجهون لأعمال تاريخية يكون عندهم جانب قيمي، وجانب أخلاقي، وجانب ولاء شرعي وتاريخي وقومي وأممي، ومع ذلك كثيراً من هذه الأعمال التاريخية ربما ما تخلو من تشويه، أو من إقحام قضية المرأة -أحياناً- في غير سياقها، وكأن الدافع الأعظم للفتوح أو للإنجازات هو فقط حب المرأة، أما طبعاً كون المرأة مؤثراً في الواقع والتاريخ هذا لا غبار عليه، لكن جعل قضية التعلق والحب كأنها هي الدافع لكثير من الإنجازات والفتوح والمآثر.
كذلك طبعاً الدراما لها تأثيرات كبيرة جداً، تأثيرات تربوية في بناء قيم، تأثيرات اجتماعية، تأثيرات نفسية، إعلامية.. بغض النظر عن كل ما يحدث من المؤكد أن الدراما اليوم هي اللاعب الأول فيما يتعلق بالشاشة، بمعنى أن المشاهدة الأغلب هي لها وهذا معروف عالمياً، وحركات التسويق والإعلان المصاحبة لهذه الأعمال تؤكد أن .. وطبعاً الدراسات نفسها تؤكد أن الجمهور الأعظم من المشاهدين في العالم كله وفي العالم العربي أيضاً هم الذين يشاهدون تلك الأعمال الدرامية
ولذلك أقول:
هنا أنت لا تتحدث عن فكرة توجد أو لا توجد، هنا ينبغي أن ننتبه لهذا المعنى، أنت تتحدث عن فكرة موجودة، وفكرة قائمة، وفكرة فرضت نفسها كيف تتعاطى معها بشكل إيجابي، وعلى الأقل إذا لم يكن السؤال هو: كيف تستطيع أن توظفها توظيفاً إيجابياً لخدمة المجتمع وقضايا المجتمع، والحفاظ على الأخلاقيات والقيم والثوابت والترشيد نحو التغيير الإيجابي، إذا لم يكن كذلك فعلى الأقل كيف تقلل من آثارها السلبية؛ وكيف تحدّ من أضرارها.
حلقة "اللاعب الأول 2"، من برنامج "حجر الزاوية 1431هـ"، تفريغ موسوعة سلمان العودة من الرابط: