ومن اللهو الذي تستريح إليه النفوس، وتطرب له القلوب، وتنعم به الآذان: الغناء. وهو أداة عاتية من أدوات الإثارة والهدم، والإلهاء للأمة عن غاياتها الجليلة، وقضاياها الكبيرة، وواجباتها الجسيمة.
وآفة هذا اللون من اللهو: أنه ارتبط تاريخياً وواقعياً بالترف ومجالس الشرب، وغدا جزءاً أساسياً من حياة اللاهين المتحللين، من فضائل الجِدِ والعفاف، كما احترفته -على مدار التاريخ- فئات اتسم أكثرها بالميوعة والخالعة، والبعد عن أحكام الدين وأخالق المتقين.
ولهذا غلب على الحس الديني النفور والتنفير منه، ووقف علماء الإسلام منه -في مختلف الأزمنة- مواقف مختلفة، ما بين محرمٍ وكارهٍ ومبيح.
ولا ريب أن هناك أنواعاً من الغناء اتفقوا على تحريمها، وأخرى اتفقوا على إباحتها، وثالثة هي موضع الاجتهاد والنظر.
فأما ما اتفقوا على تحريمه، فهو ما اشتمل على معصية أو دعا إليها.
وأما المباح باتفاق، فهو الغناء الفطري الذي يترنم به الإنسان لنفسه، أو المرأة لزوجها، أو الجارية لسيدها، ومنه حداء الإبل، ومثله غناء النساء المعتاد في الأعراس، في مجتمعهن الخاص، ونحو ذلك.
وما عدا ذلك فهو مما تختلف فيه الأنظار.
والذي أراه: أن الغناء في ذاته لا حرج فيه، وهـو داخل فـي جملة (الطيبات) أو المستلذات التي أباحها الإسلام، وأن الإثم إنما هو فيما يشتمل عليه، أو يقترن به من العوارض، التي تنقله من دائرة الحل إلى الحرمة، أو الكراهة التحريمية.
وأكثر من ذلك أنه يسُتحب في المناسبات السارة؛ إشاعة للسرور، وترويحًا للنفوس، وذلك كأيام العيد والعرس، وقدوم الغائب، وفي وقت الوليمة، والعقيقة عند والدة المولود.
فعن عائشة رضي الله عنها أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال النبي*: =يا عائشة، ما كان معكم من لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو+.(1)
وقال ابن عباس: زوجت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله* فقال: =أهديتم الفتاة+؟ قالوا: نعم، قال: =أرسلتم معها من يغني+؟ قالت: لا، فقال رسول الله*: =إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم+.(2)
---------------------------------------
(1) رواه البخاري في النكاح (5162).
(2) رواه أحمد (15209) وقال مخرجوه: حسن لغيره. وابن ماجه (1900)، والنسائي في الكبرى (5566)، كلاهما في النكاح والبزار في كشف الأستار (2108) وقال البوصيري في إتحاف الخيرة (3150): هذا إسناد حسن. وقال الهيثمي في المجمع (13349): رجاله رجال الصحيح. وحسنه الألباني في غاية المرام (398).
---------------------------------------
وعن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام مِنى -في عيد الأضحى- تغنيان وتضربان، والنبي* متغشٍ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي* عن وجهه وقال: =دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد.(1)
وقد ذكر الإمام الغزالي في كتاب (الإحياء) أحاديث غناء الجاريتين، ولعب الحبشة في مسجد النبي*، وتشجيع النبي لهم بقوله: دونكم يا بني أرفدة.(2) وقول النبي لعائشة: =تشتهين أن تنظري+، ووقوفه معها حتى تمل هي وتسأم، ولعبها بالبنات مع صواحبها. ثم قال: (فهذه الأحاديث كلها في الصحيحين، وهي نص صريح في أن الغناء واللعب ليس بحرام، وفيها دلالة على أنواع من الرخص:
الأول: اللعب، ولا يخفى عادة الحبشة في الرقص واللعب.
والثاني: فعل ذلك في المسجد.
والثالث : قوله*: دونكم يا بني أرفدة، وهذا أمر باللعب، والتماس له، فكيف يقدر كونه حراما؟
والرابع: منعه لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما عن الإنكار والتغيير، وتعليله بأنه يوم عيد، أي هو وقت سرور، وهذا من أسباب السرور.
---------------------------------------
(1) متفق عليه: رواه البخاري في المناقب (3529)، ومسلم في صلاة العيدين (892).
(2) متفق عليه: رواه البخاري في الجهاد والسير (2907)، ومسلم في صالة العيدين (892)، عن عائشة.
---------------------------------------
والخامس: وقوفه طويلا في مشاهدة ذلك وسماعه لموافقة عائشة رضي الله عنها، وفيه دليل على أن حسن الخلق في تطييب قلوب النساء والصبيان -بمشاهدة اللعب- أحسن من خشونة الزهد والتقشف، في الامتناع والمنع منه.
والسادس: قوله* لعائشة ابتداء: =أتشتهين أن تنظري+؟.(1)
والسابع : الرخصة في الغناء، والضرب بالدف من الجاريتين...(2) إلى آخر ما قاله الغزالي في كتاب السماع.
وقد روي عن كثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أنهم سمعوا الغناء، ولم يروا بسماعه بأساً.
أما ما ورد فيه من أحاديث نبوية، فكلها مثخنة بالجراح، لم يسلم منها حديث من طعن، عند فقهاء الحديث وعلمائه، قال القاضي أبو بكر بن العربي: لم يصح في تحريم الغناء شيء.(3) وقال ابن حزم: كل ما روي فيها باطل موضوع.(4)
وقد اقترن الغناء والموسيقى كثيراً بالترف ومجالس الخمر والسهر الحرام، مما جعل كثيراً من العلماء يحرمونه أو يكرهونه، وقال بعضهم: إن الغناء من =لهو الحديث+ المذكور في قوله تعالى: {ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخدها هزواً أولئك لهم عذابٌ مهين} (لقمان: 6).
---------------------------------------
(1) متفق عليه: رواه البخاري في الجهاد والسير (2906)، ومسلم في صلاة العيدين (892)، عن عائشة.
(2) إحياء علوم الدين ( 278/2).
(3) أحكام القرآن (1994/3).
(4) المحلى (565/7).
---------------------------------------
وقال ابن حزم: إن الآية ذكرت صفة من فعلها كان كافراً بلا خلاف إذا اتخذ سبيل الله هزوا، ولو أنه اشترى مصحفاً؛ ليضل به عن سبيل الله ويتخذه هزواً لكان كافراً، فهذا هو الذي ذم الله عز وجل، وما ذم سبحانه قط من اشترى لهو الحديث، ليتلهى به ويروح نفسه، لا ليضل عن سبيل الله.(1)
ورد ابن حزم أيضا على الذين قالوا إن الغناء ليس من الحق فهو إذًا من الضلال قال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (يونس: 32). قال: إن رسول الله* قال: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى+.(2) فمن نوى باستماع الغناء عونًا على معصية الله فهو فاسق -وكذلك كل شيء غير الغناء ـ ومن نوى ترويح نفسه ليقْوَى بذلك على طاعة الله\ عز وجل، وينشط نفسه بذلك على البر فهو مطيع محسن، وفعله هذا من الحق. ومن لم ينوِ طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه، كخروج الإنسان إلى بستانه متنزها، وقعوده على باب داره متفرجاً، وصبغه ثوبه لازوردياً أو أخضر أو غير ذلك+.(3)
---------------------------------------
(1) المحلى (567/7).
(2) متفق عليه: رواه البخاري (1) في بدء الوحي، ومسلم (1907) في الإمارة، عـن عمر ابن الخطاب.
(3) المحلى (567/7).
---------------------------------------
على أن هناك قيوداً لا بد أن نراعيها في أمر الغناء:
1- فلا بد أن يكون موضوع الغناء، مما لا يخالف أدب الإسلام وتعاليمه، فإذا كانت هناك أغنية تمجد الخمر أو تدعو إلى شربها مثلاً، فإن أداءها حرام، والاستماع إليها حرام، وهكذا ما شابه ذلك.
2- وربما كان الموضوع غير منافٍ لتوجيه الإسلام، ولكن طريقة أداء المغني له، تنقله من دائرة الحِل إلى دائرة الحرمة، وذلك بالتكسر والتميع وتعمد الإثارة للغرائز، والإغراء بالفتن والشهوات.
3- كما أن الدين يحارب الغلو والإسراف في كل شيء، حتى في العبادة، فما بالك بالإسراف في اللهو، وشغل الوقت به، والوقت هو الحياة؟! لا شك أن الإسراف في المباحات يأكل وقت الواجبات، وقد قيل بحق: (ما رأيت إسرافاً إلا وبجانبه حق مضيع).(1)
4- تبقى هناك أشياء يكون كل مستمع فيها مفتي نفسه، فإذا كان الغناء، أو لون خاص منه يستثير غريزته، ويغريه بالفتنة، ويطغي فيه الجانب الحيواني على الجانب الروحاني، فعليه أن يتجنبه حينئذ، ويسد الباب الذي تهب منه رياح الفتنة على قلبه ودينه وخلقه، فيستريح ويريح.
5- ومن المتفق عليه أن الغناء يحرم إذا اقترن بمحرمات أخرى كأن يكون في مجلس شرب، أو تخالطه خلاعة أو فجور، فهذا هو الذي أنذر رسول الله * أهله وسامعيه بالعذاب الشديد، حين قال: =ليشربن أناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يُعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير+.(2) وليس بلازم أن يكون مسخ هؤلاء مسخًا للشكل والصورة، وإنما هو مسخ النفس والروح، فيحملون في إهاب الإنسان نفس القرد وروح الخنزير.
---------------------------------------
(1) نهاية الأرب (296/3)، والبيان والتبيين ص (513). منسوباً لمعاوية رضي الله عنه.
(2) رواه ابن ماجه في الفتن (4020)، والطبراني في الكبير (3419)، وابن أبي شيبة في المصنف (24227)، وابن حبان في بدء الخلق (6758)، والبيهقي في الكبرى (20778)، في الشهادات وصححه السيوطي في الصغير (7706) والألباني في غاية المرام (402)، عن أبي مالك الأشعري.
---------------------------------------
ص344-350، الحلال والحرام في الإسلام، يوسف القرضاوي. مكتبة وهبة - الطبعة الأولى 2012م
[...]
واستدلوا [المحرمين] بالحديث الذي رواه البخاري -معلقاً- عن أبي مالك أو أبي عامر الأشعري -شك من الراوي- عن النبي عليه الصلاة و السلام قال: « ليكونن قوم من أمتي يستحلون الحر (الحر: بكسر الحاء و تخفيف الراء-: أي الفرج، والمعنى: يستحلون الزنى. ورواية البخاري: الخز.) والحرير والخمر والمعازف». والمعازف: الملاهي، أو آلات العزف.
والحديث و إن كان في صحيح البخاري: إلا أنه من «المعلقات» لا من «المسندات المتصلة» ولذلك رده ابن حزم لانقطاع سنده. ومع التعليق فقد قالوا: إن سنده و متنه لم يسلما من الاضطراب.
وقد اجتهد الحافظ ابن حجر لوصل الحديث، ووصله بالفعل من تسع طرق، ولـكنها جميعاً تدور على راوٍ تكلم فيه عدد من الأئمة النقاد، ألا وهو: هشام ابن عمار (انظر: تغليق التعليق - للحافظ ابن حجر: 5/17 – 22، تحقيق سعيد القزقي – طبع المكتب الإسلامي ودار عمار). و هو -وإن كان خطيب دمشق ومقرئها ومحدثها وعالمها، ووثقه ابن معين والعجلي- فقد قال عنه أبو داود: حدث بأربعمائة حديث لا أصل لها. وقال أبو حاتم: صدوق وقد تغير، فكان كل ما دفع إليه قرأه، وكل ما لقنه تلقّن. و كذلك قال ابن سيار. وقال الإمام أحمد: طياش خفيف. وقال النسائي: لا بأس به (وهذا ليس بتوثيق مطلق). ورغم دفاع الحافظ الذهبي عنه، قال: صدوق مكثر له ما ينكر (-انظر ترجمته في ميزان الاعتدال ( 4/302) ترجمة (9234)، و في «تهذيب التهذيب» (51/11 - 54).). وأنكروا عليه أنه لم يكن يحدث إلا بأجر!
ومثل هذا لا يقبل حديثه في مواطن النزاع، وخصوصاً في أمر عمت به البلوى. ورغم ما في ثبوته من الكلام، فقي دلالة كلام آخر؛ فكلمة «المعازف» لم يتفق على معناها بالتحديد ما هو؟ فقد قيل: الملاهي، وهذه مجملة، وقيل: آلات العزف.
ولو سلمنا بأن معناها: آلات الطرب المعروفة بآلات الموسيقى. فلفظ الحديث المعلق في البخاري غير صحيح في إفادة حرمة «المعازف»، لأن عبارة «يستحلون» -كما ذكر ابن العربي- لها معنيان: أحدهما: يعتقدون أن ذلك حلال، والثاني: أن تكون مجازا ً عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور؛ إذ لو كان المقصود بالاستحلال: المعني الحقيقي، لكان كفراً، فإن استحلال الحرام المقطوع به -مثل الخمر والزنى المعبر عنه بـ«الحر» كفر بالإجماع.
ولو سلمنا بدلالتها على الحرمة، فهل يستفاد منها تحريم المجموع المذكور من الحر والحرير والخمر والمعازف، أو كل فرد منها على حدة؟ والأول هو الراجح. فإن الحديث في الواقع ينعى على أخلاق طائفة من الناس: انغمسوا في الترف والليالي الحمراء، وشرب الخمور. فهم بين خمر نساء، ولهو وغناء، وخزّ وحرير. ولذا روى ابن ماجه هذا الحديث عن أبي مالك الأشعري بلفظ: «ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف و المغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير»، وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه، والبخاري في تاريخه.
وكل من روى الحديث من طريق غير هشام ابن عمار، جعل الوعيد على شرب الخمر، وما المعازف إلا مكملة وتابعة.
[...]
والخلاصة أن النصوص التي استدل بها القائلون بالتحريم إما صحيح غير صريح، أو صريح غير صحيح. ولم يسلم حديث واحد مرفوع إلى رسول الله (صلي الله عليه وآل وسلم) يصلح دليلاً للتحريم، وكل أحاديثهم ضعفها جماعة من الظاهرية والمالـكية والحنابلة والشافعية.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب «الأحكام»: لم يصح في التحريم شيء. وكذا قال الغزالي وابن النحوي في العمدة. وقال ابن طاهر في كتابه في «السماع»: لم يصح منها حرف واحد. وقال ابن حزم: «ولا يصح في هذا الباب شيء، وكل ما فيه فموضوع. ووالله لو أسند جمعية، أو واحد منه فأكثر، من طريق الثقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ترددنا في الأخذ به» (انظر «المحلى»: 9/95).
"ما حكم الإسلام في الغناء والموسيقى؟" كتاب الإسلام والفن، يوسف القرضاوي
"ما حكم الإسلام في الغناء والموسيقى؟" كتاب ملامح المجتمع المسلم الذى ننشده، يوسف القرضاوي