ومما حرمه الإسلام في مجال الغريزة الجنسية إطالة النظر من الرجل إلى المرأة، ومن المرأة إلى الرجل. فإن العين مفتاح القلب، والنظر رسول الفتنة، وبريد الزنى. وقديما قال الشاعر:
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
وحديثا قال آخر:
نظرةٌ فابسامة فسلامٌ فكلامٌ فموعدٌ فلقاء
لهذا وجه الله أمره إلى المؤمنين والمؤمنات جميعاً، بالغض من الأبصار، مقترنا بأمره يحفظ الفروج: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} (النور 31،30).
وفي هاتين الآيتين عدة" توجيهات إلهية، منها توجيهان يشترك فيهما الرجال والنساء جميعا، وهما الغض من البصر، وحفظ الفرج. والباقي موجه إلى النساء خاصة.
---------------------------------------
(1) جامع الأصول لابن الأثير (656/6) .
---------------------------------------
ويلاحظ أن الآيتين أمرتا بالغض من البصر، لا بـغـض البصر، ولم تقل: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} كما قالت: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} فإن الفرج مأمور بحفظه جملة، دون تسامح في شيء منه. أما البصر، فقد سمح الله للناس بشيء منه؛ رفعاً للحرج، ورعاية للمصلحة كما سنرى.
فالغض من البصر ليس معناه إقفال العين عن النظر، ولا إطراق الرأس إلى الأرض، فليس هذا بمراد ولا مستطاع. كما أن الغض من الصوت في قوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} (لقمان: 19)، ليس معناه إغلاق الشفتين عن الكلام، وإنما معنى الغض من البصر خفضه، وعدم إرساله طليق العنان، يلتهم الغاديات والرائحات، أو الغادين والرائحين. فإذا نظر إلى الجنس الآخر لم يغلغل النظر إلى محاسنه، ولم يطل الالتفات إليه، والتحديق به.
ولهذا قال الرسول* لعلي بن أبي طالب: =يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة+.(1)
وقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام النظراتِ الجائعة الشرهة، من أحد الجنسين إلى الآخر زِنى للعين، فقال: =العينان تزنيان وزناهما النظر+.(2) وإنما سماه (زنى)؛ لأنه ضرب من التلذذ والإشباع للغريزة الجنسية، بغير الطريق المشروع.
---------------------------------------
(1) رواه أحمد في مسنده (22991)، وقال مخرجوه: حسن لغيره، وأبو داود في النكاح (2149)، والترمذي في الأدب (2777)، وحسنه، والحاكم في النكاح (2788)، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني غاية المرام (13913)، عن بريدة.
(2) متفق عليه، رواه البخاري في الاستئذان (6243)، ومسلم فـي القدر(2657)، عـن أبي هريرة. بلفظ: فزنا العينين النظر.
---------------------------------------
ويطابق هذا ما جاء في الإنجيل، عن المسيح عليه السلام: =لقد كان من قبلكم يقولون: لا تزنِ. وأنا أقول لكم: مَنْ نظر بعينه فقد زَنىَ+.(1)
إن هذا النظر المتلذذ الجائع، ليس خطرا على خُلقُ العفاف فحسب، بل هو خطرٌ على استقرار الفكر، وطمأنينة القلب، الذي يصاب بالشرود والاضطراب.
قال الشاعر:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه، ولا عن بعضه أنت صابرُ
ومما يجب غض البصر عنه العورات، فقد نهى النبي* عـن النظر إلى العورات، ولو كان من رجل إلى رجل، أو من امرأة إلى امرأة، بشهوة أم بغير شهوة، قال: =لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد ولا المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد+.(2)
وعورة الرجل التي لا يجوز النظر إليها من رجل أو امرأة، تتحدد فيما بين السرة والركبة، كما ورد في الحديث.(3)
---------------------------------------
(1) إنجيل متى: (5 : 28-29).
(2) رواه مسلم في الحيض (338)، عن أبي سعيد الخدري. واستدل العلماء بالحديث على عدم جواز اضطجاع الرجل مع الرجل، والمرأة مع المرأة في ثوب واحد، مع التماس ببعض البدن.
(3) في الحديث: =الفخذ عورة+ ذكره البخاري معلقاً كتاب الصلاة. ورواه أحمد (22494)، عن محمد بن جحش، وأبو داود في الحمام (4014)، والترمذي في الأدب (2797) وقال: حسن غريب، عن جرهد.
---------------------------------------
ويرى بعض الأئمة كابن حزم وبعض المالكية أن الفخذ ليس بعورة.(1)
وعورة المرأة بالنسبة للرجل الأجنبي عنها هي جميع بدنها، ما عدا وجهها وكفيها، أما عورتها بالنسبة لمن كان ذا محرم منها، كأبيها وأخيها فسيأتي الحديث عنها، عند الكلام على إبداء الزينة. وما لا يجوز النظر إليه من العورات، لا يجوز أن يمس باليد أو بجزء من البدن.
وكل ما ذكرنا تحريمه من العورات ـ نظرًا أو لمسًا ـ مشروط بعدم الضرورة أو الحاجة، فإذا وجدت كما في حالة الإسعاف أو العلاج فقد زالت الحُرمة. وكل ما ذكرنا من جواز النظر مشروط بأمن الفتنة والشهوة، فإن وجدت فقد زالت الإباحة سدًّا للذريعة.
ومما ذكرنا يتبين أن نظر المرأة إلى ما ليس بعورة من الرجل -أي ما فوق السرة وتحت الركبة- مباح ما لم تصحبه شهوة، أو تخف منه فتنة. وقد أذن الرسول* لعائشة أن تنظر إلى الحبشة، وهم يلعبون بحرابهم في المسجد النبوي، وظلت تنظر إليهم حتى سئمت هي فانصرفت+.(2)
ومثل هذا نظر الرجل إلى ما ليس بعورة من المرأة -أي إلى وجهها وكفيها- فهو مباح، ما لم تصحبه شهوة، أو تخَُف منه فتنة.
---------------------------------------
(1) المحلى (241/2)، وانظر الشرح الكبير للشيخ الدردير (67/5).
(2) متفق عليه: رواه البخاري في النكاح (5236)، ومسلم في صلاة العيدين (892)، عن عائشة.
-----------------------------------------
فعن عائشة =أن أسماء بنت أبي بكر -أختها- دخلت على النبي* في لباس رقيق، يشف عن جسمها، فأعرض النبي عنها* عنها وقال: =يا أسماءُ، إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرُى منها إلا هذا وهذا+، وأشار إلى وجهه وكفيه.(1)
وفي الحديث ضعف ولكن تقويه أحاديث صحاح في إباحة رؤية الوجه والكفين عند أمن الفتنة.
وخلاصة القول: أن النظرة البريئة إلى غير عورة من الرجل أو المرأة حلال، ما لم تتخذ صفة التكرار، والتحديق الذي يصحبه -غالباً- التلذذ الذي تخاف منه الفتنة.
ومن سماحة الإسلام أنه عفا عن النظرة الخاطفة، التي تقع من الإنسان فجأة، حين يرى ما لا تبُاح له رؤيته، فعن جرير بن عبد الله قال: سألتُ رسول الله* عن نظر الفجَُاءة، فقال: =اصرف بصرك+.(2) يعني: لا تعاود النظر مرة ثانية.
---------------------------------------
(1) رواه أبو داود في اللباس (1431)، وقال: مرسل. والبيهقي في النكاح (12311)، وقال: صار القول بذلك قوياً. وحسنه الألباني في غاية المرام (481) .
(2) رواه مسلم في الآداب (3133).
---------------------------------------
ص177-181، الحلال والحرام في الإسلام، يوسف القرضاوي. مكتبة وهبة - الطبعة الأولى 2012م