ملاحظة: التالي هو جزء من جواب القرضاوي على مجموعة من الأسئلة قدمت إليه من قناة الرسالة الفضائية. يتطرق هذا الجزء بخصوص استفسار القناة عن حكم ظهور النساء غير محجبات لكنهن محتشمات. وقد أجاز فيها القرضاوي (للقناة العارضة) أن تظهر غير محجبة المحتشمة ما لم تكن هذه المرأة موظفة أساسية في القناة، وذلك في حالة عدم توفر البدائل وكانت هنالك حاجة للأمر.
ربما تكون علة استثناء الرخصة للمرأة الموظفة بشكل أساسي يرجع إلى مسؤولية القناة الأكبر تجاهها، مقارنة مع المرأة في الحالات الأخرى المذكورة مثل الضيفة أو المستشارة المتخصصة أو المشاركة من الجمهور. فالمذيعة بالنسبة للقناة يقبل ومعتاد تجاهها أكثر التحكم من قبل القناة بالطريقة التي تظهر فيها مقارنة مع الحالات الأخرى السابقة. وكذا الأمر بخصوص الممثلة التي تكون بالنسبة للقناة العارضة عبارة عن جزء من مسلسل أو فيلم (ليس من انتاجها؛ لم توظفها بشكل مباشر وأساسي) لكنها جزء من محتوى تقوم بعرضه لديها (وهو الذي يبدوا ما كانت عليه حالة وطبيعة قناة الرسالة الفضائية آن ذاك).
ولو أردنا قياس الفتوى على شركات انتاج الأعمال المرئية الدرامية أو أصحاب هذه المنتجات فيما يتعلق بالممثلات فيها. فإنه كما يبدو يتعين استثناء الممثلات بالنسبة لها من الرخصة، كون أن هؤلاء الممثلات يعتبرن بالنسبة لهم موظفات أساسيات لديهم في المشروع (إضافة إلى مسألة المسؤولية عنهن حيث أنه من المعتاد والمقبول بالنسبة لصنعة التمثيل التحكم في مظهر الممثلين كجزء من طبيعة المهنة). أما فيما يتعلق بقياس الحالات المرخصة، فربما تكون أقرب لها أكثر في حالة انتاج ما يعرف بـ"برامج الواقع" فيما يخص المشاركات فيه، أو ربما في حالة إن كان التمثيل في مكان عام غير متحكم به كشارع على سبيل المثال ولم يمنع الناس من غير الممثلين من التواجد به كمكان التصوير، فحينها ربما يمكن تطبيق الرخصة على هؤلاء المتواجدين (غير الموظفين بشكل أساسي).
[من نص إجابة يوسف القرضاوي على الأسئلة التي قدمتها له قناة الرسالة الفضائية]
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الحبيب الداعية الإسلامي الإعلامي الموفق:
الدكتور طارق محمد سويدان حفظه الله وسدد خطاه
المدير العام لقناة (الرسالة) الفضائية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد
فقد وصلتني رسالتكم المطولة عن قناتكم الفضائية الجديدة (الرسالة) ذات التوجهات الإسلامية، وأسأل الله تعالى أن يجعلها لسان صدق للدعوة إلى الإسلام وتعليمه بلسان العصر، ولسان القوم لنبين لهم، ولغير المسلمين وأن يهبكم نورا تمشون به في الظلمات، وفرقانا تميزون بين المتشابهات.
ولقد سرّني غاية السرور أن تتبنى الوسطية والاعتدال، وتتخذها منهجا لقناة (الرسالة)، والحمد لله الذي أحيانا حتى رأينا المنهج الذي دعونا إليه، وقاتلنا من أجله جملة عقود، تحتضنه وتدافع عنه مؤسسات شتّى في عالمنا الإسلامي اليوم، بعد أن ظللنا نهاجم من أجله سنين عددا.
وأنا آمل خيرا في هذه القناة، ولا سيما أن مثلك كلف بقيادتها وتأسيسها وإدارة العمل فيها بأصالة وإبداع. وأحسب – ولا أزكي على الله أحدا – أنهم أعطوا القوس باريها. وأنها ستؤسس – إن شاء الله – على تقوى من الله ورضوان، وخصوصا مع الاستعانة بالكفايات المُتْقِنَة والمؤمنة، من كل قوي أمين، وحفيظ عليم، وإن كان اجتماع القوة والأمانة – أو الحفظ والعلم – في الناس قليلا، ولكنه موجود، ولن تعدم هذه الأمة الفضل والخير أبدا.
أخي، أما أسئلتك التي وجهتها إليّ لاستبانة الرؤية الشرعية فيها، فأجيبك عنها موضوعا موضوعا، بما يفتح الله تعالى به، برغم ما لديّ من مشاغل وأعباء، لا يعين عليها إلا الله، ولكني رأيت من الواجب عليّ ألا أتأخر عن إجابتك.
الموضوع الأول: عن ظهور المرأة في البرامج والدراما
عن ظهور المرأة في البرامج والدراما. السؤال: كمقدمة برنامج أو كمضيفة في برنامج أو كمشاركة من الجمهور وكممثلة في فيلم أو مسلسل أو مسرحية (نظرا لعدم توافر المواد) مع التزامنا بضوابط الإحتشام وعدم الإبتذال وإثارة الغرائز.
ما هو رأيكم حول ظهور المرأة غير محجبة ولكنها محتشمة (بمعنى لا تثر الغرائز أو تخضع بالقول أو نحو ذلك) في برامج متخصصة اجتماعية أو طبية أو علمية... وما في حكمها حيث أن وجودها أحياناً قد يكون لبيان رأيا علمياً متخصصا أو نحو ذلك كما في برامج المرأة والطفل مثلاً وذلك نظراً لعدم توافر البديل المناسب مع التزامها بالإحتشام الكامل؟
الجواب:
عن ظهور المرأة في البرامج والدراما، مثل: أن تكون مقدمة برامج، أو ضيفة فيه، أو مذيعة أخبار، أو مشاركة من الجمهور، أو ممثلة في فيلم أو مسلسل.. الخ. هل يجوز ظهورها غير محجبة، ولكنها محتشمة،.. الخ؟
ونحن هنا نُقِر أمرين مهمين:
الأول: إنه لا يمكن لقناة تليفزيونية أن تستغني عن المرأة تماماً، إلا إذا استغنت عن نصف المجتمع. فالمرأة جزء من الحياة البشرية، كما قال تعالى: {بعضكم من بعض} آل عمران: 195.
ومنذ خلق الله آدم أبا البشر، خلق له من نفسه -أي من جنسه- زوجا ليسكن إليها، وقال له: اسكن أنت وزوجك الجنة، وألزمهما معا بأول تكليف إلهي {ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} البقرة: 35.
وقد رأينا المرأة في قصص الأنبياء: بعد آدم، نوح وإبراهيم ويوسف وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة السلام.
ولذا لا يتصور أن تخلو الحياة من المرأة إلا استنكافاً واعتسافاً.
والأمر الثاني: أننا إذا أردنا أن ندخل معترك الإعلام، ونُقِيم لنا إعلاما ملتزما ينافس إعلام الآخرين، بل يتفوق عليهم، فلا بد أن نتبنى في فقهنا الإسلامي أصلين أساسيين أراهما ضروريين:
الأصل الأول: التيسير. لا بد أن نتبنى التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير، وبعض الأخوة ينكرون هذا ويقولون: نحن مع الدليل، سواء جاء باليسر أو بالعسر.
وأنا أقول لهم: إن التيسير منهج نبوي، أمر به النبي الكريم أبا موسى ومعاذا حين أرسلهما إلى اليمن، وأمر به الأمة كلها فيما رواه أنس عنه "يسروا ولا تعسروا" فلا بد أن يكون لهذا التيسير معنى.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه، حين همُّوا بالصحابي الذي بال في المسجد: "لا تزرموه (أي لا تقطعوا عليه بوله) وصُبّوا عليه ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين" رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة.
ومعنى هذا: أنه لو كان هناك قولان متكافئان أو متقاربان أحدهما أحوط، والآخر أيسر، فبماذا نفتي عموم الناس؟ أما أنا فأفتيهم بالأيسر، وخصوصا في عصرنا، الذي رَقّ فيه الدين، وقَلّ فيه اليقين. ودليلي على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما).
ولا شك أن الفقهاء يتفاوتون في التشديد والتيسر، فمنهم من يتمسك بحرفية النص، ومنهم من ينظر إلى مقصوده، ومنهم من يتوسع في الأخذ بالرخص، ومنهم من يُضَيِّق، وقد عرف تراثنا شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس.
وأرى أن الإعلام خاصة أحوج ما يكون إلى فقه التيسير، فإذا كان هناك من يُشَدِّد ويقول: الوجه عورة، فعلى الفقه الإعلامي أن يأخذ بقول من يقول: الوجه ليس بعورة. وإذا كان هناك من يُحَرِّم التصوير، فلا بد لنا من ترجيح القول بجواز التصوير الفوتوغرافي والتلفزيوني وغيرهما. وإذا كان هناك من يُحَرِّم الغناء بآلة أو بغير آلة، وهناك من يجيزه بشروط فلا بد لنا أن نرجح جوازه بشروط. وهكذا.
الأصل الثاني: هو (التدرج) والتدرج: سنة كونية، وسنة شرعية، ولا يمكن أن نُوجد إعلاما إسلاميا يحقق الأهداف، ويُشْبع طموحات المؤمنين، بغير أن نُعد له القوة، ونهيئ له الأسباب، ومنها الطاقات أو (الكوادر) البشرية الفنية المتخصصة والمدربين، وهذا يحتاج إلى زمن طويل، وإلى أعداد كبيرة من البشر، وإلى أموال غزيرة تجند لتهيئتهم للقيام برسالتهم المتنوعة والمتعددة.
ونحن نعلم كيف تدرجت تعاليم الإسلام وأحكامه، في فرض الفرائض، وتحريم المحرمات، ولعل تحريم الخمر على مراحل من أوضح ما يذكر هنا. فلماذا ننسى هذا في إقامة مجتمع إسلامي معاصر قادر على منافسة المجتمعات المتقدمة، مع المحافظة على أصوله وقيمه ومعتقداته وشرائعه؟!
بناء على تقرير هذين الأصلين: التيسير والتدرج، لا أرى مانعا من استخدام المرأة غير المحجبة في غير تقديم البرامج؛ لأن مقدمة البرامج موظفة أساسية في القناة
أما الأمور الأخرى فلا مانع منها، إذا لم تكن متبرجة ولا مبتذلة، ولكنها تلتزم بالحشمة المعقولة.
وهذا بحكم الضرورة، أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، وللضرورات أحكامها، ولكن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، وما ألحق بالضرورات من الحاجات -خاصة كانت أوعامة- يأخذ حكمها. وهذا من فضائل هذه الشريعة.
على أن تسعى القناة ما أمكنها للبحث عن المحجبات والملتزمات، كلما وجدت إلى ذلك سبيلا، فهي تتعامل مع الواقع، مع السعي في إصلاح الحال.
[...]
فتاوى قناة الرسالة الفضائية بتاريخ 5 محرم 1427 هـ الموافق 4/2/2006م، نسخة محفوظة على الرابط:
https://web.archive.org/web/20090106093208/http://www.alresalah.net:80/more01.htm