ومن اللهو اللي شاع في عصرنا: مشاهدة الأعمال (الدرامية) التي تعتبر من أشهر ألوان (الفن) في هذا الزمن. وللفن في هذا العصر نفوذ وسطوة في حياة الناس، وتأثير كبير على أفكارهم، وعلى مشاعرهم، وعلى سلوكهم. وإذا كانت العبادة غذاء الروح، والثقافة غذاء العقل، والرياضة غذاء الجسم، فإن الفن غذاء الوجدان. ولا يمنع الدين من غذاء الوجدان إذا كان الغذاء بما لا يمرضه ولا يؤذيه، أما إذا غذي بغذاء مسموم أو فاسد أو منتهي الصلاحية، أو اختلط بشيء فاسد أو ملوث أو مشع، فهنا ينقلب المباح إلى محرم، صغير أو كبير، حسب درجة الفساد والخطر فيه.
ومن أبرز الأعمال الفنية في عصرنا ما يسمى (الدراما) وهي الأعمال التي تمثل قصصا حقيقية أو متخيلة في الحياة، ويعبر عنها في صورة مسرحية أو تمثيلية أو (فيلم) أو مسلسل. فما حكم هذه الأعمال من الناحية الشرعية؟
بعض الناس يحرم هذه الأعمال من الأساس، لأنها في نظره تقوم على الكذب، باختراع قصص وأشخاص ومواقف ينطقها بكلمات، ويحركها في مواقف، وينسب إليها أعمالاً، وربما لم يكن لها وجود قط. ولكن اعتبار هذا كذباً غير مُسَلم، لأن المشاهد والسامع يعرف أن هذه أشياء من صنع المؤلف، كما اخترع العرب أمثالاً وكلمات ومواقف على ألسنة الحيوانات والطيور، بل الجمادات، ولم يقل أحد: إن هذا كذب.
بل جعل بعض المفسرين(1) من ذلك قوله تعالى: {إإنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72] فجعلوه من باب الاستعارة التمثيلية، أو التصوير الفني كما سما سيد قطب.
---------------------------------------
(1) انظر: تفسير الآية في الكشاف للزمخشري (276/3، 277) ط. دار المعرفة، وتفسير أبي السعود (323/4، 324) ط دار الفكر، وحاشية الشهاب علي البيضاوي (187/7) ط. المكبة الإسلامية. تركيا.
---------------------------------------
والمؤلف قد يستنطق موقف الشخص، فيتكلم على لسانه بما يفترض أن يقوله مثله في هذا الموقف، كما وجدنا القرآن يتكلم على لسان النملة، وعلى لسان الهدهد بما يتصور أن يقوله كل منهما، وإن لم ينطقا بهذا الكلام العربي المعجز، كما ذكره القرآن الكريم.
ومن الناس من حرم هذه الأفلام والمسلسلات ونحوها من الأساس، لأنها تقوم على (التصوير)، والتصوير عنده حرام،(1) ولو كان تصويراً (فوتوغرافياً) كما يسميه أهل الخليج (العكس)، أو كان تصويراً (تليفزيونياً) مما يجسد (خلق الله) وليس مضاهاة لخلق الله، كما جاء في بعض الأحاديث. فمن كان يرى التصوير حراماً، حرم كل ما يظهر في التليفزيون حتى نشرة الأخبار، بل حتى الأحاديث الدينية.
ومنهم من يحرمها، لوجود المرأة فيها، والمرأة كلها عورة، وجهها عورة، وصوتها عورة. في حين أن جمهور العلماء لا يرون وجه المرأة وكفيها من العورة، ولا يرون أن صوتها عورة، إلا ما كان فيه خضوعٌ بالقول، أي تكسر وتميع وقصد إلى الإغراء، كما قال تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 32].
والقول الذي أراه: أن هذه الأشياء التي يعرضها التليفزيون وغيره، لا تعد حراماً ولا حلالاً في ذاتها، إلا بمضمونها الذي تشتمل عليه، فإن كان سليماً وجيداً، فلا حرج فيه، وإن كان رديناً وخبيثاً، اتجه القول إلى التحريم.
---------------------------------------
(1) رددنا على ذلك في عدد من كتبنا منها: "الحلال والحرام" صـ111 و"فتاوى معاصر" (740/1) فلتراجع.
---------------------------------------
والأمر يحتاج إلى دراسة وتفصيل، ولم أفرغ له بعد، وهو جديرٌ بالبحث الدراسة، على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي بعقد بعض الندوات والحلقات لأهمية الموضوع، ولا سيما أن البلوى قد عمت به، وصار يماسي الناس ويصابحهم، ويدخل عليهم بيوتهم ومخادعهم، ويؤثر في كبيرهم وصغيرهم، ولا بد من بيان ما يحل من ذلك وما لا يحل، وإن كان الحلال في ذلك بيناً، والحرام بيناً، وينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس.
ومند عشرات السنين قامت محاولات إسلامية لإنتاج إعلامي إسلامي متميز، وخصوصاً في المجال الدرامي، فلم تظفر بطائل، وأقصى ما وصل إليه المحاولون هو (الفيلم الكرتوني) عن (محمد الفاتح) أنتجته شركة (آلاء) الإعلامية الإسلامية، وقد أشرنا إليه من قبل.
كل ما نجحت فيه المحاولات الإسلامية هو الأحاديث والمحاورات والندوات، ذلك لأن العمل الدرامي يحتاج إلى طاقات بشرية هائلة، وأموال طائلة، وجهود فنية مستمرة، فهو في حاجة إلى من يكتب النص، وإلى من يحوله إلى سيناريو، وإلى من ينتجه وينفق عليه، إلى من يخرجه، وإلى من يمثله ويصوره، وإلى من يسوقه ويوزعه، وليس هذا كله بالأمر الهين. إنه يحتاج إلى دول، أو إلى مؤسسات كبرى، مستعدة للتضحية والخسارة المادية في أول الأمر حتى ترسخ أقدامها.
ص143 - 145، فقه اللهو والترويح، يوسف القرضاوي. مكتبة وهبة 2005م